المادة    
وقد استدل الشارح رحمه الله تعالى على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: {من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه}، وهذا الحديث المشهور رواه الترمذي، وهو حديث صحيح بشواهده كما ذكر الشيخ؛ حتى قيل: إن هذا الحديث من جوامع الكلم، وهو كذلك؛ لأن الإنسان إذا أخذ بهذا الحديث النافع الجامع الشامل وطبقه في حياته، وجد الخير الكثير، وأما ما قاله ابن عبد البر من البحث عن دينك وأن تستفهم وتستعلم لتعبد ربك على بصيرة، فليس من هذا الباب.
ونذكر مصداقاً لهذا الحديث قول الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ))[المائدة:101].
ولَعَلّ القصة التي نزلت هذه الآية من أجلها معلومة، ففي البخاري وفي غيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الصحابة الكرام طالباً منهم أن يسألوه، فمن كان لديه أمر فليسأل، فقام أحد الصحابة وهو عبد الله بن حذافة السهمي، وقال: { يا رسول الله! من أبي؟ قال أبوك حذافة }، فعاد عبد الله بن حذافة إلى أمه، فعنفته تعنيفاً شديداً، وقالت: ما رأيت أعق منك! إنا كنا في جاهلية، أرأيت لو قارفت ما قارف أهل الجاهلية، أتفضحني على رءوس الملأ؟!
وفي بعض الروايات: {أن رجلين قال أحدهم: يا رسول الله! من أبي؟ قال: أبوك سالم مولى شيبة، وقال الآخر: يا رسول الله! من أبي؟ قال: أبوك حذافة، ثم تألم وغضب غضباً شديداً، حتى قام عمر وقال: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، حتى سكن غضبه صلى الله عليه وسلم وألمه }.
فكان ينبغي في مثل هذا الموقف أن يسأل الرسول عن أمر ينفع الناس، فهو لا يأتي إلا بخير صلى الله عليه وسلم، فكان الأولى أن يُفتَح باب من أبواب الخير للمسلمين، ولكنه سئل عن شيء آخر فقيل له: من أبي؟ فصحح له رسول الله صلى الله عليه وسلم نسبه، فما الذي استفاد هو أو غيره من هذا السؤال.
فهذا في الحقيقة مما لا يعني الإنسان، وقد قال الرسول عليه السلام: {من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه}، فلا يسأل الإنسان عن أمر لا ينفعه أو لا يعنيه، والعمر أقل وأضيق من أن يشتغل أحد فيه بما لا يعنيه، وقد قال بعض السلف كلمة عظيمة تدل على فقههم -رضي الله عنهم- واهتمامهم بأمر دينهم، قال: "علامة إعراض الله سبحانه وتعالى عن العبد أن يشغله بما لا يعنيه"، فإذا أردت أن تعرف هل الله معرض عن إنسان أم هو من أوليائه ومن أصفيائه؛ فانظر بماذا يشتغل هذا الإنسان، فإن كان يشتغل بما لا يعنيه، فاعرف أن الله معرض عنه، فماذا نقول في واقعنا الآن؟! كم من إنسان مشغول بتتبع الكرة ليل نهار! يتتبع أخبار المباريات من أولها إلى آخرها.. فقد شغله الله بما لا يعنيه، وكم من إنسان شغل بتتبع الأخبار التجارية وليس له رأس مال ولا تجارة! يريد أن يعرف الدولار والجنيه، وقيمة كل واحد منهما شغله الله بما لا يعنيه، وكم من إنسان مشغول بالحديث عن الناس وتتبع أخبارهم.. شغله الله بما لا يعنيه، ولو أنه ذكر الله وسبح واستغفر، وعمل لدنياه بما ينفعه وينفع أهله وأبناءه، لكان له في ذلك خير كثير.
لكن إذا أحب الله عبداً وفقه للخير.. لحلقات العلم، ولمجالس الذكر، ولقراءة القرآن والسنة، وللعمل بالحق، وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهؤلاء هم الصفوة وهم الخيرة من هذه الأمة، جعلنا الله منهم.
إذاً: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، إذا كان هذا في مقام التأدب مع رسول الله، أو مع العلماء، أو مع طلبة العلم، فما بالكم بهذا التأدب مع مقام الألوهية؟! فإذا قال أحد: كيف يعذب الله على هذا الذنب وهو الذي كتبه وقدره كما هو معروف في باب القدر؟! فيكون بذلك قد وقع في غاية الإساءة وفي غاية الاعتراض على الله سبحانه وتعالى الذي يظهر منه عدم الامتثال وعدم العبودية له سبحانه وتعالى، حتى وإن كان فيما لا يعني، وهذا واقع كثيرٍ من الناس، فمثلاً يقول أحدهم: رجل في جزيرة لم تبلغه دعوة الإسلام، فكيف يعذبه الله؟! ويأتي أحدهم ويجيبه! فهذا قد سأل عما لا يعنيه، والآخر أجاب بغير علم وبما لا يعنيه.